فصل: أَرْكَانُ الْمُحَاسَبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.أَرْكَانُ الْمُحَاسَبَةِ:

.الرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا لِلَّهِ:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمُحَاسَبَةُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُقَايِسَ بَيْنَ نِعْمَتِهِ وَجِنَايَتِكَ مِنْ أَرْكَانِ الْمُحَاسَبَةِ.
يَعْنِي تُقَايِسَ بَيْنَ مَا مِنَ اللَّهِ وَمَا مِنْكَ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَكَ التَّفَاوُتُ، وَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا عَفْوُهُ وَرَحْمَتُهُ، أَوِ الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ.
وَبِهَذِهِ الْمُقَايَسَةِ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ وَالْعَبْدَ عَبْدٌ، وَيَتَبَيَّنُ لَكَ حَقِيقَةُ النَّفْسِ وَصِفَاتُهَا، وَعَظْمَةُ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالْكَمَالِ وَالْإِفْضَالِ، وَأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلَّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَأَنْتَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُقَايَسَةِ جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ نَفْسِكَ، وَبِرُبُوبِيَّةِ فَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا، فَإِذَا قَايَسْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهَا مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَسَاسُ كُلِّ نَقْصٍ، وَأَنَّ حَدَّهَا الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ، وَأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ بِتَزْكِيَتِهِ لَهَا مَا زَكَتْ أَبَدًا، وَلَوْلَا هُدَاهُ مَا اهْتَدَتْ، وَلَوْلَا إِرْشَادُهُ وَتَوْفِيقُهُ لَمَا كَانَ لَهَا وُصُولٌ إِلَى خَيْرٍ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ لَهَا مِنْ بَارِئِهَا وَفَاطِرِهَا، وَتَوَقُّفَهُ عَلَيْهِ كَتَوَقُّفِ وُجُودِهَا عَلَى إِيجَادِهِ، فَكَمَا أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وُجُودٌ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا كَمَالُ الْوُجُودِ، فَلَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا إِلَّا الْعَدَمُ- عَدَمُ الذَّاتِ، وَعَدَمُ الْكَمَالِ- فَهُنَاكَ تَقُولُ حَقًّا «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي».
ثُمَّ تُقَايِسُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَتَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمُقَايَسَةِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَأَرْجَحُ قَدْرًا وَصِفَةً.
وَهَذِهِ الْمُقَايَسَةُ الثَّانِيَةُ مُقَايَسَةٌ بَيْنَ أَفْعَالِكَ وَمَا مِنْكَ خَاصَّةً.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمُقَايَسَةُ تَشُقُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: نُورُ الْحِكْمَةِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وَتَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ.
يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمُقَايَسَةَ وَالْمُحَاسَبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى نُورِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ، فَبِقَدْرِهِ تَرَى التَّفَاوُتَ، وَتَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ.
وَنُورُ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُبْصِرُ بِهِ مَرَاتِبَ الْأَعْمَالِ، رَاجِحَهَا وَمَرْجُوحَهَا، وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودَهَا، وَكُلَّمَا كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظُّهُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ فَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ التَّفْتِيشِ وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرَى الْمَسَاوِئَ مَحَاسِنَ، وَالْعُيُوبَ كَمَالًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَرَى مَسَاوِئَ مَحْبُوبِهِ وَعُيُوبَهُ كَذَلِكَ.
فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَـةٌ ** كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا

وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، وَمَنْ أَحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ: فَلْيُفَرِّقْ بَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الْإِحْسَانُ وَاللُّطْفُ، وَيُعَانُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الِاسْتِدْرَاجُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالنِّعَمِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِ، مَغْرُورٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ حَوَائِجَهُ وَسَتْرِهِ عَلَيْهِ! وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
فَإِذَا كَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِيهِ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِجَمْعِهِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ، وَمَا فَرَّقَهُ عَنْهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ الْبَلَاءُ فِي صُورَةِ النِّعْمَةِ، وَالْمِحْنَةُ فِي صُورَةِ الْمِنْحَةِ، فَلْيَحْذَرْ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ، وَيُمَيِّزْ بِذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الْمِنَّةِ وَالْحُجَّةِ، فَكَمْ تَلْتَبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ بِالْأُخْرَى!.
فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، فَالْحُكْمُ الدِّينِيُّ مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} وَقَالَ: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}.
وَالْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ كَوْنًا حُكْمًا مَصْحُوبًا بِاتِّصَالِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ بِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الدِّينِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ الدِّينِيُّ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، فَتَوْفِيقُهُ لِلْقِيَامِ بِهِ مِنَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ صَارَ حُجَّةً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَالْمِنَّةُ بِاقْتِرَانِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي تَجَرُّدِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَكُلُّ عِلْمٍ صَحِبَهُ عَمَلٌ يُرْضِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ قُوَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ صَحِبَهَا تَنْفِيذٌ لِمَرْضَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ حَالٍ صَحِبَهُ تَأْثِيرٌ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنَّةٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ مَالٍ اقْتَرَنَ بِهِ إِنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، لَا لِطَلَبِ الْجَزَاءِ وَلَا الشَّكُورِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ فَرَاغٍ اقْتَرَنَ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا يُرِيدُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ قَبُولٍ فِي النَّاسِ، وَتَعْظِيمٍ وَمَحَبَّةٍ لَهُ، اتَّصَلَ بِهِ خُضُوعٌ لِلرَّبِّ، وَذُلٌّ وَانْكِسَارٌ، وَمَعْرِفَةٌ بِعَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ بَصِيرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَتَذْكِيرٍ وَتَعْرِيفٍ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ، اتَّصَلَ بِهِ عِبْرَةٌ وَمَزِيدٌ فِي الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةٌ فِي الْإِيمَانِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ حَالٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مَقَامٍ اتَّصَلَ بِهِ السَّيْرُ إِلَى اللَّهِ، وَإِيثَارُ مُرَادِهِ عَلَى مُرَادِ الْعَبْدِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ صَحِبَهُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَالرِّضَى بِهِ، وَإِيثَارُ مُقْتَضَاهُ، مِنْ لَذَّةِ النَّفْسِ بِهِ وَطُمَأْنِينَتِهَا إِلَيْهَا، وَرُكُونِهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ هَذَا الْمَوْضِعَ الْعَظِيمَ الْخَطَرِ، وَيُمَيِّزْ بَيْنَ مَوَاقِعِ الْمِنَنِ وَالْمِحَنِ، وَالْحُجَجِ وَالنِّعَمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ ذَلِكَ عَلَى خَوَاصِّ النَّاسِ وَأَرْبَابِ السُّلُوكِ، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

.فَصْلٌ: [الرُّكْنُ الثَّانِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا عَلَيْهِ]:

الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْمُحَاسَبَةِ:
وَهِيَ أَنْ تُمَيِّزَ مَا لِلْحَقِّ عَلَيْكَ وَبَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ وُجُوبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَبَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ، فَالَّذِي لَكَ: هُوَ الْمُبَاحُ الشَّرْعِيُّ، فَعَلَيْكَ حَقٌّ، وَلَكَ حَقٌّ، فَأَدِّ مَا عَلَيْكَ يُؤْتِكَ مَا لَكَ.
وَلَابُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجْعَلُ كَثِيرًا مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ قَسْمِ مَا لَهُ، فَيَتَحَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ رَأَى أَنَّهُ فَضْلٌ قَامَ بِهِ لَا حَقٌّ أَدَّاهُ.
وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى كَثِيرًا مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ مِنْ قَسْمِ مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ، فَيَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ مَا لَهُ فِعْلُهُ، كَتَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَيَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ، أَوْ يَتَعَبَّدُ بِفِعْلِ مَا لَهُ تَرْكُهُ وَيَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: مَنْ يَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ النِّكَاحِ، أَوْ تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ، أَوِ الْفَاكِهَةِ مَثَلًا، أَوِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، وَيَرَى- لِجَهْلِهِ- أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ تَرْكَهُ، أَوْ يَرَى تَرْكَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتُهُمْ، فَخَطَبَ، وَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ؟ لَكِنِّي أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَتَبَرَّأَ مِمَّنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ، وَتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِتَرْكِ مَا أَبَاحَهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، رَغْبَةً عَنْهُ، وَاعْتِقَادًا أَنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ وَهَجْرَهُ عِبَادَةٌ، فَهَذَا لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ وَمَا لَهُ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: مَنْ يَتَعَبَّدُ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي يَظُنُّهَا جَالِبَةً لِلْحَالِ، وَالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ لَوَازِمُ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهَا الْبَتَّةَ، فَيَتَعَبَّدُ بِالْتِزَامِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَيَرَاهَا حَقًّا عَلَيْهِ، وَهِيَ حَقٌّ لَهُ، وَلَهُ تَرْكُهَا، كَفِعْلِ الرِّيَاضَاتِ، وَالْأَوْضَاعِ الَّتِي رَسَمَهَا كَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا فِيهَا مِنْ حَظِّ الْعَبْدِ وَالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ.

.فَصْلٌ: [الرُّكْنُ الثَّالِثُ الرِّضَا بِالطَّاعَةِ وَالتَّعْيِيرُ بِالْمَعْصِيَةِ]:

وَمِنْ أَرْكَانِ الْمُحَاسَبَةِ الرِّضَا بِالطَّاعَةِ وَالتَّعْيِيرُ بِالْمَعْصِيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ، فَقَالَ:
الثَّالِثُ: أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ رَضِيتَهَا مِنْكَ فَهِيَ عَلَيْكَ، وَكُلَّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ.
رِضَاءُ الْعَبْدِ بِطَاعَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَجَهْلِهِ بِحُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَعَدَمِ عَمَلِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَيَلِيقُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ جَهْلَهُ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهَا وَآفَاتِهَا وَعُيُوبِ عَمَلِهِ، وَجَهْلَهُ بِرَبِّهِ وَحُقُوقِهِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ، يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا رِضَاهُ بِطَاعَتِهِ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِهَا، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَجَبِ وَالْكِبْرِ وَالْآفَاتِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا.
فَالرِّضَا بِالطَّاعَةِ مِنْ رَعُونَاتِ النَّفْسِ وَحَمَاقَتِهَا.
وَأَرْبَابُ الْعَزَائِمِ وَالْبَصَائِرِ أَشَدُّ مَا يَكُونُونَ اسْتِغْفَارًا عُقَيْبَ الطَّاعَاتِ، لِشُهُودِهِمْ تَقْصِيرَهُمْ فِيهَا، وَتَرْكَ الْقِيَامِ لِلَّهِ بِهَا كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمْرُ لَمَا أَقْدَمَ أَحَدُهُمْ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا رَضِيَهَا لِسَيِّدِهِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَفْدَهُ وَحُجَّاجَ بَيْتِهِ بِأَنْ يَسْتَغْفِرُوهُ عُقَيْبَ إِفَاضَتِهِمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمَوَاقِفِ وَأَفْضَلُهَا، فَقَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} قَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغَفْرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَعْبَائِهَا، وَقَضَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَاقْتِرَابِ أَجَلِهِ، فَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
وَمِنْ هَاهُنَا فَهِمَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّ هَذَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ بِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ عُقَيْبَ أَدَاءِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّكَ قَدْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَاجْعَلْ خَاتِمَتَهُ الِاسْتِغْفَارَ، كَمَا كَانَ خَاتِمَةَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَخَاتِمَةُ الْوُضُوءِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ».
فَهَذَا شَأْنُ مَنْ عَرَفَ مَا يَنْبَغِي لِلَّهِ، وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَشَرَائِطِهَا، لَا جَهْلَ أَصْحَابِ الدَّعَاوِي وَشَطَحَاتِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَتَى رَضِيتَ نَفْسَكَ وَعَمَلَكَ لِلَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ نَفْسَهُ مَأْوَى كُلِّ عَيْبٍ وَشَرٍّ، وَعَمَلَهُ عُرْضَةٌ لِكُلِّ آفَةٍ وَنَقْصٍ، كَيْفَ يَرْضَى لِلَّهِ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ؟.
وَلِلَّهِ دَرُّالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ حَيْثُ يَقُولُ: مَنْ تَحَقَّقَ بِالْعُبُودِيَّةِ نَظَرَ أَفْعَالَهُ بِعَيْنِ الرِّيَاءِ، وَأَحْوَالَهُ بِعَيْنِ الدَّعْوَى، وَأَقْوَالَهُ بِعَيْنِ الِافْتِرَاءِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ فِي قَلْبِكَ، صَغُرَتْ نَفْسُكَ عِنْدَكَ، وَتَضَاءَلَتِ الْقِيمَةُ الَّتِي تَبْذُلُهَا فِي تَحْصِيلِهِ، وَكُلَّمَا شَهِدْتَ حَقِيقَةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَعَرَفْتَ اللَّهَ، وَعَرَفْتَ النَّفْسَ، وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا مَعَكَ مِنَ الْبِضَاعَةِ لَا يَصْلُحُ لِلْمَلِكِ الْحَقِّ، وَلَوْ جِئْتَ بِعَمَلِ الثَّقَلَيْنِ خَشِيتَ عَاقِبَتَهُ وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ، وَيُثِيبُكَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ.
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَيْكَ وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَهَا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَفِي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِالْمُعَيَّرِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مَرْفُوعًا لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: أَنَّ تَعْيِيرَكَ لِأَخِيكَ بِذَنْبِهِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ ذَنْبِهِ وَأَشَدُّ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَوْلَةِ الطَّاعَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَشُكْرِهَا، وَالْمُنَادَاةِ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَأَنَّ أَخَاكَ بَاءَ بِهِ، وَلَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ، وَمَا أَحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَرَضِ الدَّعْوَى، وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَوُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ نَاكِسَ الرَّأْسِ، خَاشِعَ الطَّرْفِ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَخَيْرٌ مِنْ صَوْلَةِ طَاعَتِكَ، وَتَكَثُّرِكَ بِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِهَا، وَالْمِنَّةِ عَلَى اللَّهِ وَخَلْقِهِ بِهَا، فَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْعَاصِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ! وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمُدِلَّ مِنْ مَقْتِ اللَّهِ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّكَ أَنْ تَبِيتَ نَائِمًا وَتُصْبِحَ نَادِمًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبِيتَ قَائِمًا وَتُصْبِحَ مُعْجَبًا، فَإِنَّ الْمُعْجَبَ لَا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ، وَإِنَّكَ إِنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ، وَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ الْمُدِلِّينَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَسْقَاهُ بِهَذَا الذَّنْبِ دَوَاءً اسْتَخْرَجَ بِهِ دَاءً قَاتِلًا هُوَ فِيكَ وَلَا تَشْعُرُ.
فَلِلَّهِ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ أَسْرَارٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَلَا يُطَالِعُهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ، فَيَعْرِفُونَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا تَنَالُهُ مَعَارِفُ الْبَشَرِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ» أَيْ لَا يُعَيِّرْ، مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِخْوَتِهِ {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} فَإِنَّ الْمِيزَانَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْحُكْمَ لِلَّهِ، فَالسَّوْطُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ هَذَا الْعَاصِي بِيَدِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَالْقَصْدُ إِقَامَةُ الْحَدِّ لَا التَّعْيِيرُ وَالتَّثْرِيبُ، وَلَا يَأْمَنُ كَرَّاتِ الْقَدَرِ وَسَطْوَتَهُ إِلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَعْلَمِ الْخَلْقِ بِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَكَانْتَ عَامَّةُ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» وَقَالَ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ» ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّوْبَةِ:

فَإِذَا صَحَّ هَذَا الْمَقَامُ، وَنَزَلَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَقَامِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّهُ بِالْمُحَاسَبَةِ قَدْ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلْيَجْمَعْ هِمَّتَهُ وَعَزْمَهُ عَلَى النُّزُولِ فِيهِ وَالتَّشْمِيرِ إِلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ.
وَمَنْزِلُ التَّوْبَةِ أَوَّلُ الْمَنَازِلِ، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ الْعَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى الْمَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ لَعَلَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي، إِيذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ، فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَسَّمَ الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ، وَمَا ثَمَّ قَسْمٌ ثَالِثٌ الْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الظَّالِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ».
فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ وَعَظْمَتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلَالُهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمِهِمْ بِهَا.

.شَرَائِطُ التَّوْبَةِ:

وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ مَعْنَاهَا هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ، وَمُفَارَقَتُهُ لِصِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَحْصُلُ هِدَايَتُهُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَدِ انْتَظَمَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَحْسَنَ انْتِظَامٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَبْلَغَ تَضَمُّنٍ، فَمَنْ أَعْطَى الْفَاتِحَةَ حَقَّهَا- عِلْمًا وَشُهُودًا وَحَالًا مَعْرِفَةً- عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ التَّامَّةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا تَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِالذُّنُوبِ، وَلَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَهْلٌ يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْهُدَى، وَالثَّانِيَ غَيٌّ يُنَافِي قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، وَالِاعْتِرَافِ بِهِ، وَطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.
قَالَ فِي الْمَنَازِلِ: وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الذَّنْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِلَى انْخِلَاعِكَ مِنَ الْعِصْمَةِ حِينَ إِتْيَانِهِ، وَفَرَحِكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ، وَقُعُودِكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ، مَعَ تَيَقُّنِكَ نَظَرَ الْحَقِّ إِلَيْكَ.
يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالِانْخِلَاعِ عَنِ الْعِصْمَةِ انْخِلَاعَهُ عَنِ اعْتِصَامِهِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَمَا خَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ الطَّاعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَلَوْ كَمُلَتْ عِصْمَتُهُ بِاللَّهِ لَمْ يَخْذُلْهُ أَبَدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أَيْ مَتَى اعْتَصَمْتُمْ بِهِ تَوَلَّاكُمْ، وَنَصَرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُمَا الْعَدُوَّانِ اللَّذَانِ لَا يُفَارِقَانِ الْعَبْدَ، وَعَدَاوَتُهُمَا أَضَرُّ مِنْ عَدَاوَةِ الْعَدُوِّ الْخَارِجِ، فَالنَّصْرُ عَلَى هَذَا الْعَدُوِّ أَهَمُّ، وَالْعَبْدُ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، وَكَمَالُ النُّصْرَةِ عَلَى الْعَدُوِّ بِحَسَبِ كَمَالِ الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاعْتِصَامِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الِانْخِلَاعَ مِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّكَ إِنَّمَا ارْتَكَبْتَ الذَّنْبَ بَعْدَ انْخِلَاعِكَ مِنْ تَوْبَةِ عِصْمَتِهِ لَكَ، فَمَتَى عُرِفَ هَذَا الِانْخِلَاعُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ عِنْدَهُ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْهَلَكَ كُلَّ الْهَلَكِ بَعْدَهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْخِذْلَانِ، فَمَا خَلَّى اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَذَلَكَ، وَخَلَّى بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، وَلَوْ عَصَمَكَ وَوَفَّقَكَ لَمَا وَجَدَ الذَّنْبُ إِلَيْكَ سَبِيلًا.
فَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْخِذْلَانَ: أَنْ يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَالتَّوْفِيقَ: أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ التَّخْلِيَةِ- بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ وَخِذْلَانِكَ حَتَّى وَاقَعْتَهُ- حِكَمٌ وَأَسْرَارٌ، سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا.
وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَرْجِعُ التَّوْبَةُ إِلَى اعْتِصَامِكَ بِهِ وَعِصْمَتِهِ لَكَ.
قَوْلُهُ: وَفَرَّحَكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ.
الْفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا، فَفَرَحُهُ بِهَا غَطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَفَرَحُهُ بِهَا أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَالْمُؤْمِنُ لَا تَتِمُّ لَهُ لَذَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا فَرَحُهُ، بَلْ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا وَالْحُزْنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ، وَلَكِنَّ سُكْرَ الشَّهْوَةِ يَحْجُبُهُ عَنِ الشُّعُورِ بِهِ، وَمَتَى خَلَّى قَلْبَهُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ، وَاشْتَدَّتْ غِبْطَتُهُ وَسُرُورُهُ فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى مَوْتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَحْزَنَهُ ارْتِكَابُهُ لِلذَّنْبِ، وَغَاظَهُ وَصَعُبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ الْقَلْبُ بِذَلِكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُحِسَّ بِهِ فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ.
وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الذَّنْبِ قَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَوْ يَنْتَبِهُ لَهَا، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَخُوفٌ جِدًّا، مُتَرَامٍ إِلَى هَلَاكٍ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: خَوْفٍ مِنَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَشْمِيرٍ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِهِ.
قَوْلُهُ: وَقُعُودُكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ.
الْإِصْرَارُ: هُوَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ آخَرُ، لَعَلَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ أَنَّهُ يُوجِبُ ذَنْبًا أَكْبَرَ مِنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثُ كَذَلِكَ، حَتَّى يَسْتَحْكِمَ الْهَلَاكُ.
فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى، وَالْقُعُودُ عَنْ تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِصْرَارٌ وَرِضًا بِهَا، وَطُمَأْنِينَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُجَاهَرَةُ بِالذَّنْبِ مَعَ تَيَقُّنِ نَظَرِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ آمَنَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ فَعَظِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَكُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: بَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَمُجَاهَرَةِ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَيَقُّنُهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ نَاظِرًا- وَلَا يَزَالُ- إِلَيْهِ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ، يَرَاهُ جَهْرَةً عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ جَاحِدًا لَهُ، فَتَوْبَتُهُ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِقْرَارُهُ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
قَالَ: وَشَرَائِطُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ، وَالْإِقْلَاعُ، وَالِاعْتِذَارُ.
فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ، وَيَعْزِمُ.
فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَهَذَا الرُّجُوعُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ.
وَلَمَّا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ جُعِلَتْ شَرَائِطَ لَهُ.
فَأَمَّا النَّدَمُ: فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إِلَّا بِهِ، إِذْ مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى الْقَبِيحِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ «النَّدَمُ تَوْبَةٌ».
وَأَمَّا الْإِقْلَاعُ: فَتَسْتَحِيلُ التَّوْبَةُ مَعَ مُبَاشَرَةِ الذَّنْبِ.
وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ: فَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الِاعْتِذَارَ مُحَاجَّةٌ عَنِ الْجِنَايَةِ، وَتَرْكُ الِاعْتِذَارِ اعْتِرَافٌ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ لِرَئِيسِهِ وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ:
وَمَا قَابَلْتَ عَتْبَكَ بِاعْتِــذَارٍ ** وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا تَقُــولُ

وَأَطْرُقُ بَابَ عَفْوِكَ بِانْكِسَـارٍ ** وَيَحْكُمُ بَيْنَنَا الْخُلُقُ الْجَمِيـلُ

فَلَمَّا سَمِعَ الرَّئِيسُ مَقَالَتَهُ قَامَ وَرَكِبَ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَزَالَ عَتْبَهُ عَلَيْهِ، فَتَمَامُ الِاعْتِرَافِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: اللَّهُمَّ لَا بَرَاءَةَ لِي مِنْ ذَنْبٍ فَأَعْتَذِرُ، وَلَا قُوَّةَ لِي فَأَنْتَصِرُ، وَلَكِنِّي مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، اللَّهُمَّ لَا عُذْرَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ حَقِّكَ، وَمَحْضُ جِنَايَتِي، فَإِنْ عَفَوْتَ وَإِلَّا فَالْحَقُّ لَكَ.
وَالَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاعْتِذَارِ إِظْهَارَ الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَغَلَبَةَ الْعَدُوِّ، وَقُوَّةَ سُلْطَانِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي مَا كَانَ عَنِ اسْتِهَانَةٍ بِحَقِّكَ، وَلَا جَهْلًا بِهِ، وَلَا إِنْكَارًا لِاطِّلَاعِكَ، وَلَا اسْتِهَانَةً بِوَعِيدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، وَطَمَعًا فِي مَغْفِرَتِكَ وَاتِّكَالًا عَلَى عَفْوِكَ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِكَ، وَرَجَاءً لِكَرَمِكَ، وَطَمَعًا فِي سَعَةِ حِلْمِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَغَرَّنِي بِكَ الْغَرُورُ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَسِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، وَأَعَانَنِي جَهْلِي، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِصَامِ لِي إِلَّا بِكَ، وَلَا مَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاسْتِعْطَافِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ.
فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا يَسْلُكُهُ الْأَكْيَاسُ الْمُتَمَلِّقُونَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَتَمَلَّقَ لَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ «تَمَلَّقُوا لِلَّهِ» وَفِي الصَّحِيحِ لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِعْذَارَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ أَعْذَرَ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ لَا يُؤَاخِذَ ظَالِمَهُمْ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِعْذَارِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» فَهَذَا هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَحْمُودُ النَّافِعُ.
وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ، وَاحْتِجَاجٌ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَحَمْلٌ لِذَنْبِهِ عَلَى الْأَقْدَارِ، وَهَذَا فِعْلُ خُصَمَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالُوا: مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ قَالَ: إِقَامَةُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ.
وَكَذِبَ هَذَا الْجَاهِلُ بِاللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّزْهِيدُ فِي هَذَا الْفَانِي الذَّاهِبِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْبَاقِي الدَّائِمِ، وَالْإِزْرَاءُ بِمَنْ آثَرَ هَذَا الْمُزَيَّنَ وَاتَّبَعَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ مَا يَلْعَبُ بِهِ، فَيَهُشُّ إِلَيْهِ وَيَتَحَرَّكُ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فَاعِلَ التَّزْيِينِ، فَلَمْ يَقُلْ زُيِّنَّا لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُضِيفُ تَزْيِينَ الدُّنْيَا وَالْمَعَاصِي إِلَى الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ «بُعِثْتُ هَادِيًا وَدَاعِيًا، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَبُعِثَ إِبْلِيسُ مُغْوِيًا وَمُزَيِّنًا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فَإِنَّ إِضَافَةَ التَّزْيِينِ إِلَيْهِ قَضَاءً وَقَدَرًا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَسَبُّبًا، مَعَ أَنَّهُ تَزْيِينُهُ تَعَالَى عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى رُكُونِهِمْ إِلَى مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ، فَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَدَرِ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاعْتِذَارِ فِي شَيْءٍ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا قَضَاؤُكَ، وَأَنْتَ قَدَّرْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ حَكَمْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْتَ عَمِلْتَ، وَأَنْتَ كَسَبْتَ، وَأَنْتَ أَرَدْتَ وَاجْتَهَدْتَ، وَأَنَا أُعَاقِبُكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ، أَنَا ظَلَمْتُ، وَأَنَا أَخْطَأْتُ، وَأَنَا اعْتَدَيْتُ، وَأَنَا فَعَلْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا قَدَرْتُ عَلَيْكَ وَقَضَيْتُ وَكَتَبْتُ، وَأَنَا أَغْفِرُ لَكَ، وَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنَا عَمِلْتُهَا، وَأَنَا تَصَدَّقْتُ، وَأَنَا صَلَّيْتُ، وَأَنَا أَطْعَمْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا أَعَنْتُكَ، وَأَنَا وَفَّقْتُكَ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعَنْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي، وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ: وَأَنْتَ عَمِلْتَهَا، وَأَنْتَ أَرَدْتَهَا، وَأَنْتَ كَسَبْتَهَا».
فَالِاعْتِذَارُ اعْتِذَارَانِ: اعْتِذَارٌ يُنَافِي الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَاعْتِذَارٌ يُقَرِّرُ الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ.